أخيراً.. سكن البيت. تهادت أصوات النهار ولم يبقَ سوى أنفاسنا تتوافق في هدوء الغرفة. كنتُ أراقبكِ اليوم وأنتِ تجلسين مع الصغار في الحديقة. سأل أحدهم فجأة: ‘لماذا لا تسقط النجوم من السماء؟’. للحظة، توقعتُ أن يمتد إصبعكِ إلى الهاتف بحثاً عن إجابة سريعة من جوجل. لكنكِ لم تفعلي. رفعتِ رأسكِ للسماء، وابتسمتِ، ثم قلتِ: ‘سؤال جميل… برأيكم، ما الذي يمسكها هناك؟’.
في تلك اللحظة، لم تكوني أماً تجيب على سؤال، بل كنتِ تفتحين باباً لعالم كامل من الخيال والتساؤل. وهذا جعلني أفكر… في هذا العصر الذي يقدّم لنا الإجابات قبل أن نطرح الأسئلة، كيف يمكننا أن نحمي هذه الشرارة الصغيرة من الفضول؟
الشاشة كجسر للاكتشاف، لا كجدار للعزلة
أتذكرين ذلك المساء عندما كنا نشاهد فيلماً وثائقياً عن المحيطات، وفجأة توقف صغيرنا عن متابعة القصة ليسأل عن سبب توهج بعض الأسماك في الظلام.
كان من السهل أن نقول له ‘أكمل المشاهدة وستعرف’، لكنكِ أوقفتِ الفيلم. أخرجتِ جهازك اللوحي، لا لتشغيل لعبة، بل لتقولي: ‘هيا بنا نذهب في رحلة استكشافية صغيرة’. معاً، بحثنا عن ‘التلألؤ البيولوجي’، وشاهدنا مقاطع حقيقية لتلك المخلوقات الساحرة.
لقد حوّلتِ لحظة تشتيت محتملة إلى مغامرة تعليمية مشتركة. أضحك أحياناً عندما أفكر في توقيت أسئلتهم؛ دائماً ما تأتي في أكثر اللحظات غير المتوقعة، كأنها تختبر قدرتنا على التوقف والانتباه.
لكنكِ، ببراعة وهدوء، تستخدمين نفس الأداة التي نخشاها – الشاشة – وتحولينها إلى نافذة تطل على عوالم جديدة، بدلاً من أن تكون باباً موصداً أمام العالم الحقيقي. أنتِ تذكرينني دائماً أن المشكلة ليست في الأداة، بل في طريقة استخدامنا لها.
فن الاستماع للأسئلة الصغيرة التي تخفي وراءها عوالم كبيرة
أكثر ما يذهلني حقاً! قدرتكِ الفطرية على الاستماع… لا بآذانكِ فقط، بل بقلبكِ كله وبكل وجودكِ! عندما يسأل طفل سؤالاً يبدو بسيطاً أو حتى سخيفاً للوهلة الأولى، أرى كيف تتوقفين عن كل ما تفعلينه.
تنحنين لمستواه، تنظرين في عينيه، وتمنحين سؤاله كل الأهمية التي يستحقها. ‘لماذا لون البحر أزرق؟’، ‘هل تشعر الأشجار بالألم؟’. هذه ليست مجرد أسئلة عابرة بالنسبة لكِ، بل هي دعوات للدخول إلى عوالمهم الداخلية، لفهم كيف يرون الحياة.
أنتِ لا تقدمين إجابات علمية معقدة، بل تردين بسؤال آخر يفتح حواراً أعمق: ‘وماذا تظن أنت؟’، ‘لو كنت شجرة، ماذا كنت ستشعر؟’
بهذه الطريقة، أنتِ لا تعلمينهم الحقائق فحسب، بل تعلمينهم أن أفكارهم ومشاعرهم مهمة، وأن صوتهم مسموع. أنتِ تخلقين مساحة آمنة للتساؤل، بيئة لا يخشى فيها الطفل أن يبدو ‘غبيًا’.
بناء ثقافة الفضول في تفاصيل حياتنا اليومية
الفضول في بيتنا ليس نشاطاً نخصّص له وقتاً في نهاية الأسبوع، بل هو جزء من نسيج يومنا. وهذا بفضلكِ أنتِ. لقد حوّلتِ مهامنا الروتينية إلى فرص للاكتشاف.
الطهي معاً لم يعد مجرد إعداد للطعام، بل أصبح مختبر كيمياء مصغراً نتساءل فيه لماذا يرتفع العجين وكيف يتغير لون الخضروات. المشي في طريق العودة من المدرسة أصبح رحلة استكشاف للطبيعة.
حتى ترتيب الألعاب أصبح فرصة لفرزها حسب اللون أو الحجم أو المادة. أنتِ تملكين موهبة مدهشة! موهبة رؤية الإمكانيات الخفية في أبسط اللحظات… وتحويلها، كما بالسحر، إلى مغامرات صغيرة.
أنتِ تبنين في أذهانهم عادة البحث عن ‘لماذا’ و’كيف’ في كل شيء حولهم، وهذه هي الهدية التي ستظل معهم طوال حياتهم، أغلى من أي لعبة أو جهاز إلكتروني.
شراكة متوازنة… من أجل مستقبل أكثر إنسانية
عندما أفكر في المستقبل، أعرف أننا لا نستطيع حماية أطفالنا من التكنولوجيا، ولا يجب علينا ذلك. لكن ما يمكننا فعله، وما أراكِ تفعلينه كل يوم ببراعة، هو بناء أساس إنساني متين بداخلهم.
أساس يجعلهم يتحكمون في التكنولوجيا ولا تدعها تتحكم فيهم. أنتِ تعلمينهم أن أعظم مصدر للمعلومات ليس جوجل، بل هو الحوار، والتجربة، والتأمل في العالم من حولهم.
أنتِ توازنين بين عالم الشاشات وعالم الطبيعة، بين الإجابات السريعة ومتعة البحث البطيء. وفي خضم انشغالي بضغوط العمل ومتطلبات الحياة، أنتِ تمثلين البوصلة الهادئة لعائلتنا. وهذا ما تؤكده أيضاً وجهات نظر معاصرة في ثقافة الابتكار…
المصدر: NDTV Launches Tech360: A New Lens On Innovation, Culture, And Society, Ndtv Profit, 2025/09/13
