
في إحدى الليالي الهادئة، بعد أن نام الأطفال، وجدتها تحدق في شاشة الحاسوب اللوحي. لم تكن تتصفح شيئًا عابرًا. كان تركيزها عميقًا، وذلك التعبير على وجهها الذي أعرفه جيدًا… مزيج من الفضول الحذر والقلق اللامتناهي.
في تلك اللحظة، لم أكن أرى مجرد أم تبحث عن تطبيق، بل شعرت وكأنها حارسة على عتبة عالمين. أعرف هذه النظرة جيدًا، رأيتها مرات كثيرة… تلك النظرة لخصت السؤال الذي يؤرقنا جميعًا: كيف نتعامل مع تحديات تربية الأبناء في عصر التكنولوجيا؟ في صمتها ذاك، كانت ترسم مبادئ تربية الأطفال في عصر الذكاء الاصطناعي، ليس بالكلمات، بل بقلبها.
الحسابات الخفية وراء كل نقرة

نحن نرى النتيجة النهائية: تطبيق جديد على الجهاز، أو مقطع فيديو تعليمي ممتع. لكن ما لا نراه هو الساعات التي قضتها في البحث والمقارنة والقراءة.
أراقبها وهي تتنقل بين المراجعات، وتدقق في سياسات الخصوصية، وتحاول أن تفهم الخوارزميات التي سيتفاعل معها عقل طفل صغير. إنها ليست مجرد عملية تحميل، إنها عملية موازنة دقيقة بين الفائدة والمخاطر. كل نقرة تقوم بها هي قرار محسوب.
هل هذا المحتوى يعزز الإبداع أم يقتله؟ هل يعلم الصبر أم يشجع على الإشباع الفوري؟ هذا هو تعليم الأطفال الاستخدام الآمن للتكنولوجيا في أنقى صوره. إنه الجهد الخفي الذي تبذله كل أم لإنشاء فقاعة آمنة في محيط رقمي لا يمكن التنبؤ به.
تدرك أن كل دقيقة يقضيها أطفالنا أمام الشاشة تشكل شخصيتهم. تأخذ هذه المسؤولية بجدية، لكن هذه الجدية لا تظهر على السطح أبدًا.
بوصلة القيم في وجه كل خوارزمية

أكثر ما يلهمني فيها هو قدرتها على التمييز بين ما هو \”سهل\” وما هو \”صحيح\”. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يروي قصة ما قبل النوم بصوت مثالي، لكنها تختار قراءة حكايات ‘ألف ليلة وليلة’ من الكتاب الورقي، حيث رائحة صفحاته وصوتها المألوف يترددان في الغرفة.
يمكن للمساعد الرقمي الإجابة على أي سؤال يطرحه الطفل فورًا، لكنها تشجع على البحث معًا في كتاب أو حتى مجرد التفكير في السؤال بصوت عالٍ. هذه اللحظات الصغيرة هي جوهر الموازنة بين الذكاء الاصطناعي والقيم الأسرية.
قوتها ليست في رفض التكنولوجيا، بل في إبقائها في مكانها الصحيح.
إنها تصر على أن التكنولوجيا يجب أن تكون أداة، لا بديلًا عن التواصل الإنساني. إنها تزرع في أطفالنا فكرة أن أروع الاكتشافات وأصدق المشاعر لا تأتي من خوارزمية، بل من التجربة الحية، من لمسة يد، ومن حوار حقيقي يجمعنا حول طاولة العشاء.
جلساتنا الهادئة بعد أن ينام الأطفال

في تلك الليالي الهادئة بعد نوم الأطفال، نجلس في مجلسنا الداخلي لنشرب القهوة العربية، وهذه الأحاديث التي تدور بيننا هي أهم اجتماعاتنا. أتذكر كيف كنت قلقًا بشأن استخدام التكنولوجيا عندما كانت ابنتي صغيرة، لكن هذه المحادثات دائمًا ما أعطاني منظورًا جديدًا. هنا، نطرح على أنفسنا الأسئلة الكبيرة بصوت منخفض: كيف نحمي أطفالنا من مخاطر الذكاء الاصطناعي؟ هل نحن نقدم لهم ما يكفي من المهارات ليتعاملوا مع عالم متغير؟ غالبًا ما أبدأ هذه الأحاديث بالقلق، لكنها دائمًا ما تجد طريقة لتهدئة العاصفة في قلبي. إنها لا تملك إجابات سحرية، لكنها تملك حكمة فطرية.
تقول لي: “الأهم ليس أن نمنعهم، بل أن نبني بداخلهم بوصلة أخلاقية قوية”. حديثها دائمًا ما يعود إلى الأساسيات: الصدق، التعاطف، القدرة على التفكير النقدي. هي تؤمن بأن الطفل الذي يعرف قيمة التواصل الحقيقي لن يضيع في عالم افتراضي. هذه الأحاديث تذكرني بأننا فريق، وأن مخاوفنا المشتركة هي ما يجعلنا آباء أفضل، نبحث معًا عن الطريق.
الإرث الحقيقي: إنسان أولاً، ثم مستخدم للتكنولوجيا

عندما أراها وهي تضع الجهاز جانبًا لتشارك الأطفال في بناء قلعة من المكعبات، أو عندما تبتسم لذلك الرسم المشوه الذي أنتجته مخيلتهم بدلاً من صورة مثالية صنعها الذكاء الاصطناعي، أدرك ما هو الإرث الحقيقي الذي تبنيه.
إنها لا تربي مهندسي برمجيات أو خبراء بيانات بالضرورة، بل تربي بشرًا. بشرًا يعرفون كيف يشعرون، وكيف يتعاطفون، وكيف يبدعون من لا شيء.
إن مبادئ التربية التي تتبعها بقلبها ليست مدونة في كتب الخبراء، بل منقوشة في كل تفاعل يومي. هي تعلمنا جميعًا أن الهدف ليس مجاراة سرعة التكنولوجيا، بل ترسيخ إنسانيتنا في عالم يميل إلى نسيانها.
وفي هدوئها وقوتها الصامتة، أرى مستقبل أطفالنا… مستقبل آمن ودافئ، ليس لأنه خالٍ من التحديات، بل لأنه مليء بالحب والقيم التي لا يمكن لأي خوارزمية أن تحاكيها.
المصدر: Are we inching closer to an OpenAI IPO?, Fortune, 2025-09-15.
