
هدأ البيت أخيرًا. أصوات الأطفال تحولت إلى أنفاس منتظمة، وضجيج المدينة في الخارج أصبح همسًا بعيدًا. في هذا السكون الذي لا يأتي إلا في آخر الليل، كنتُ أراقبكِ وأنتِ تتصفحين شيئًا على هاتفكِ، وعلى وجهكِ ابتسامة هادئة. خطر ببالي مقال قرأته اليوم عن نوع جديد من الذكاء الاصطناعي، نوعٌ قادر على أن يتذكر… وقادر على أن ينسى، حسب اختيارنا. الفكرة لم تكن تقنية بالنسبة لي، بل شعرتُ أنها تلامس شيئًا عميقًا في رحلتنا معًا. كيف نتعامل مع آلةٍ ذاكرتها كاملة، بينما نحن البشر، نجد الكثير من السلام في قدرتنا على النسيان؟
الذاكرة التي لا تخطئ: نعمة في زحمة الحياة

أتذكرين صباح اليوم؟ بين تجهيز الفطور، ومراجعة واجبات المدرسة، والرد على بريد إلكتروني عاجل للعمل، كدتُ أنسى موعد طبيب الأسنان. لولا أن المساعد الذكي ذكرني به، لضاع الموعد في زحمة الأفكار. في لحظات كهذه، تبدو الذاكرة الرقمية الكاملة نعمة حقيقية. إنها تساعدنا على إدارة الفوضى، وتتذكر لنا قوائم المشتريات، ومواعيد اللقاحات، وأعياد ميلاد الأقارب.
أحيانًا أراكِ وأنتِ تديرين كل هذه التفاصيل في رأسكِ، وكأن عقلكِ هو القلب النابض الذي ينظم حياتنا كلها. أنتِ لا تحتاجين لتطبيق يذكركِ بتفاصيل دقيقة، كأن أحد أطفالنا يفضل نوعًا معينًا من الطعام، أو أن الآخر لديه حساسية تجاه شيء ما. أنتِ تتذكرين هذه الأشياء لأنها جزء من نسيج حبكِ ورعايتكِ. لكنني أرى أيضًا حجم الإرهاق الذي يسببه هذا الحمل الذهني. لذلك عندما أرى التكنولوجيا وهي ترفع عنكِ عبئًا بسيطًا، كأن تتذكر مقادير وصفة جديدة أو تضيف الصابون إلى قائمة التسوق، أشعر بالامتنان. إنها مساعدة صغيرة في عالم يطلب منكِ الكثير باستمرار.
جمال النسيان: ملاذنا الآمن الذي لا يُسجَّل

لكن بعد ذلك، أفكر في الجانب الآخر. أفكر في كل اللحظات التي بيننا والتي لا نريدها أن تُحفظ في ذاكرة أبدية. أفكر في تلك النكتة السخيفة التي ألقيتها بعد يوم عمل طويل ولم تضحك عليها إلا أنتِ، أو في تلك اللحظة التي شعرتِ فيها بالإحباط وتحدثتِ بصوت متعب عن تحديات يومكِ. هذه اللحظات العابرة، الصادقة، هي ملكنا وحدنا. جمالها يكمن في أنها تحدث ثم تتلاشى، تاركةً أثرها في قلوبنا فقط، لا على خادم سحابي في مكان ما.
القدرة على النسيان هي رحمة. أن ننسى كلمة قيلت في لحظة غضب، أو ننسى تفصيلاً صغيرًا ومحرجًا. هذه هي المساحة التي تسمح لنا بالنمو والتسامح.
أخشى من عالم كل شيء فيه مسجل، كل خطأ صغير، كل لحظة ضعف. علاقتنا مبنية على الثقة، على معرفة أننا نستطيع أن نكون على طبيعتنا تمامًا مع بعضنا البعض، دون فلتر أو خوف من أن يتم تذكيرنا بكلامنا بعد سنوات. هذا هو ملاذنا الآمن، وهذه الخصوصية هي التي تجعل بيتنا بيتًا حقيقيًا.
توازننا الخاص: بين ما نود تذكره وما نختار تركه

ربما هذا هو التحدي الحقيقي الذي يطرحه هذا الذكاء الاصطناعي الجديد. إنه يجبرنا على التفكير بوعي في ما نريد أن نحتفظ به. في حياتنا معًا، نحن نقوم بهذا بشكل طبيعي. أنتِ تحتفظين بالرسومات الأولى للأطفال، وبالبطاقة التي كتبتها لكِ في ذكرى زواجنا الأولى. وأنا أحتفظ في ذاكرتي بصورة وجهكِ وأنتِ تنظرين إليهم وهم نائمون. نحن نختار كنوزنا بعناية.
مع التكنولوجيا، علينا أن نتعلم كيف نفعل الشيء نفسه. أن نستخدمها لتذكر المواعيد والمهام، ولكن أن نحمي أحاديثنا القلبية من أن تصبح مجرد بيانات. أن نلتقط صورًا للحظات السعيدة، ولكن أن نعيش لحظات أخرى دون الحاجة لتوثيقها، مكتفين بوجودنا معًا. الأمر يشبه ذاكرتي أنا، التي تنسى أحيانًا أن تشتري الخبز في طريق العودة للمنزل، لكنها لن تنسى أبدًا كيف شعرتُ عندما رأيتكِ للمرة الأولى. ذاكرتنا البشرية انتقائية وعاطفية، وهذا هو سر قوتها.
في النهاية، القصة هي قصتنا نحن
عندما أفكر في المستقبل، وفي كل هذه التقنيات التي ستدخل حياتنا، لا أشعر بالقلق. لأنني أنظر إليكِ وأرى البوصلة الحقيقية لعائلتنا. أنتِ من علّمني أن أهم الأشياء في الحياة ليست تلك التي يمكن قياسها أو تسجيلها. إنها الشعور بالدفء في هذا الهدوء، إنها الطمأنينة في وجودنا معًا، إنها القوة الهادئة التي تديرين بها عالمنا كل يوم.
هذه الأجهزة الذكية قد تتذكر كل شيء، لكنها لن تفهم أبدًا معنى أن تكون شريكًا، أو أمًا، أو أبًا. لن تفهم النظرة المتبادلة التي نقول بها لبعضنا “أنا معك” بعد يوم شاق. ذاكرتها بيانات، أما ذاكرتنا فهي حكاية. حكاية نكتبها معًا كل يوم، بفوضاها الجميلة، ولحظاتها المنسية، وذكرياتها التي لا تقدر بثمن. وهذه الحكاية، يا حبيبتي، هي أثمن ما نملك.
هذه الأفكار جعلتني أبحث أكثر، ووجدت مقالاً مثيراً…
المصدر: You have to pay Claude to remember you, but the AI will forget your conversations for free, Techradar, 2025-09-13
